مكانة المسجد في الإسلام .
في المسجد يتعرف الناس إلى ربهم ، ويتعلمون أحكام دينهم ، وفيه يقفون على المنهج الأمثل لتطبيق هذه الأحكام ، وفيه تقام الصلوات وأنواع العبادات ، ومن دون المسجد تؤول وحدة المسلمين إلى شتات وتفرقهم الأهواء والشهوات ، لذلك سارع النبي صلى الله عليه وسلم منذ أن وطئت قدماه أرض المدينة ، وهي أول دار للإسلام ، سارع إلى بناء المسجد ليكون الركيزة الأولى في بناء المجتمع الإسلامي .
أول من نور المسجد .
روي أن تميماً الداري ، أحد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حمل من الشام إلى المدينة ، قناديل ، وزيتاً وحبالاً ، فلما انتهى إلى المدينة ، وافق ذلك ليلة الجمعة ، فأمر غلاماً له فربط الحبال ، وعلق القناديل ، وصب فيها الزيت ، وجعل فيها الفتيل ، فلما غربت الشمس أمر غلامه فأسرجها ، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد ، فإذا هي تزهر فقال :
(( من فعل هذا ؟ ))
قالوا : تميم الداري يا رسول الله .. فقال :
(( نوّرت الإسلام ، نور الله عليك في الدنيا والآخرة ، أما لو كانت لي ابنة لزوجتكها ))
فقال نوفل بن الحارث : لي ابنة يا رسول الله ، تسمى المغيرة ، فافعل بها ما أردت فزوجه إياها .( نوفل بن الحارث رضي الله عنه هو صحابي أبن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان أسن من العباس ، حضر بدراً مع المشركين ، فأسر ففداه عمه العباس ثم أسلم ، وهاجر عام الخندق أعان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حُنين بثلاثة آلاف رمح ، مات سنة 20هـ وقيل 15هـ (سير الأعلام1/199)
المسجد الأقصى .
ويتعرض المسجد الأقصى موطن سيدنا إبراهيم ،
ومتعبد الأنبياء السابقين ومسرى خاتم النبيين ، المسجد الذي نوه الله به
في الآيات المفصلة ، وتليت فيه الكتب المنزلة ، أولى القبلتين ، وثاني
المسجدين ، وثالث الحرمين الشريفين ، لا تشد الرحال بعد المسجدين إلا إليه
كما ورد عن المصطفى صلى الله عليه وسلم .
المسجد الأقصى الذي بارك الله حوله ببركات الدين والدنيا ، والذي أضحى بالإسراء إليه ، والمعراج منه رمزاً للشخصية المعنوية للمسلمين ، وهذا المسجد يتعرض اليوم لاعتداءات متكررة على بنائه حيث تجري أعمال الحفريات في حرمه وما حوله ، بزعم التنقيب عن هيكل سيدنا سليمان ، إنها حجة واهية تخفي وراءها نوايا عدوانية تستهدف تخريبه وإزالته من الوجود ، وطمس هذا المعلم الإسلامي البارز من المعالم والمقدسات الإسلامية، وتدنيس فاضح لحرمة هذا المكان الطاهر. فإنها مؤامرة تُحاك ضد هذا المسجد ، حيث يحلم الصهاينة ببناء معبد يهودي على أنقاضه ، لذلك هم ينشطون لإبراز مسجد الصخرة على أنه المسجد الأقصى ، تمهيداً لإزالته ، وبناء المعبد المزعوم مكانه .
إن مسجد الصخرة الذي يبرزه الإعلام الصهيوني على أنه المسجد الأقصى بصورته المعهودة ، عند عامة الناس ، ليس هو المسجد الأقصى الذي ورد ذكره في القرآن الكريم ، بل هو مسجد الصخرة ، التي تم منها عروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى سدرة المنتهى ، حيث دنا فتدلى ، فكان قاب قوسين أو أدنى ، فأوحي إلى عبده ما أوحى ، وفي وصف القرآن الكريم المسجد الأقصى بالبركة إيماءٌ قوي للعرب حملة رسالة الإسلام ، وإلى المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها ، أنه مفروض عليهم ـ وقد بارك الله حوله ـ أن يحفظوا له هذه البركة ، ومتى اعتدي عليها ، فعليهم أن يصطلحوا مع ربهم أولاً ، ويعدُّوا لعدوهم ما يستطيعون من قوة ثانياً .. كي يحرروه ، ويحرروا ما حوله من أيدي الغزاة ، ويحيوا بتحريره سيرة فاتحيه الأبطال ؛ عمر بن الخطاب ، وصلاح الدين الأيوبي .. ( صلاح الدين الأيوبي رحمه الله هو المجاهد البطل ، محرر القدس من الصليبيين ، وبطل معركة حطين ، ينتمي إلى عائلة كردية من قبيلة الروادية ، ولد بقلعة تكريت قرب بغداد سنة 532هـ كان تقياً خاشع القلب غزير الدمعة ، حسن الظن بربه ، عادلاً رحيماً ، صابراً شجاعاً حليماً زاهداً ، يتذكر الموت دائماً ( كتاب صلاح الدين لعبد الله علوان ) ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله .. قال تعالى :
﴿
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا
اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ
يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي
الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114)﴾
فإن الخزي والعار في الدنيا ، والعذاب العظيم
في الآخرة ، جزاء من يمنع مساجد الله ، أن يُذكر فيها اسمه ، ويسعى في
خرابها ، أما الذي يعمر مساجد الله بالبنيان ، وينورها بالإيمان ، فعمله
هذا علامة مميزة ، على صحة الإسلام ، وصدق الإيمان ، قال تعالى :
﴿ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ
بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ
وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ
الْمُهْتَدِينَ (18)﴾
ولو انتقلنا إلى مدينة القدس ، حيث المسجد
الأقصى متعبد الأنبياء ومسرى خاتم النبيين ، وعدنا عبر البعد الزماني إلى
يوم الجمعة الواقع في السابع والعشرين من شهر رجب عام خمسمائة وثلاثة
وثمانين للهجرة ، الموافق في الثاني من تشرين الأول عام ألف ومائة وسبع
ثمانين للميلاد .. لوجدناه يوماً عظيماً تم فيه فتح مدينة القدس من قبل المسلمين وبقيادة البطل صلاح الدين ، وتم تحريرها من أيدي الغزاة الطامعين ، وها نحن أولاء نرى القلوب قد امتلأت بالفرح ، والوجوه قد عمها البشر ، ونسمع الألسنة وقد لهجت بالشكر وقد علت الرايات وعلقت القناديل ورُفع الأذان وتُلي القرآن ، وصفت العبادات وأُقيمت الصلوات وأديمت الدعوات ، وتجلت البركات وانجلت الكربات وزال العبوس وطابت النفوس وفرح المؤمنون بنصر الله .
وها نحن أولاء ندخل المسجد الأقصى ، فإذا المسلمون وفيهم صلاح الدين وجنده يجلسون على الأرض ، لا تتفاوت مقاعدهم ، ولا يمتاز أميرهم عن أحد منهم ، قد خشعت جوارحهم ، وسكنت حركاتهم هؤلاء الذين كانوا فرساناً في أرض المعركة ، استحالوا رهباناً خُشعاً كأن على رؤوسهم الطير ، في حرم المسجد ، وها هو ذا خطيب المسجد محي الدين القرشي قاضي دمشق يصعد المنبر ويلقي خطبته ، ولو ألقيت على رمال البيد ، لتحركت وانقلبت فرساناً ولو سمعتها الصخور الصم لانبثقت فيها الحياة .. لقد افتتحها بقوله تعالى :
﴿ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45)﴾
وها نحن أولاء نستمع إلى فقرات من خطبته : " أيها الناس ابشروا برضوان من الله الذي هو الغاية القصوى والدرجة العليا ، لما يسّره الله على أيديكم ، من استرداد هذه الضالة من الأمة الضالة ، وردّها إلى مقرها من الإسلام ، بعد ابتذالها في أيدي المعتدين الغاصبين قريباً من مائة عام ، وتطهير هذا البيت الذي أذن الله أن يُرفع ويُذكر فيه اسمه ، من رجس الشرك والعدوان .
ثم قال محذراً : إياكم ، عباد الله ، أن يستذلكم الشيطان ، فيُخيل إليكم أن هذا النصر كان بسيوفكم الحداد ، وخيولكم الجياد .. لا والله وما النصر إلا من عند الله .. فاحذروا ، عباد الله ، بعد أن شرَّفكم الله بهذا الفتح الجليل ، أن تقترفوا كبيرة من مناهيه ، انصروا الله ينصركم .. خذوا في حسم الداء وقطع شأفة الأعداء ".
وهانحن أولاء نخرج من المسجد الأقصى ، ونلتقي بأحد الفرنجة الذين شهدوا فتح القدس وهاهو ذا يحدثنا فيقول : إن المسلمين لم يؤذوا أحداً ، ولم ينهبوا مالاً ، ولم يقتلوا مُسالماً ، ولا مُعاهداً ، وإن من شاء منا خرج وحمل معه ما شاء ، وإننا بعناهم ما فضُل من أمتعتنا ، فاشتروها منا بأثمانها ، وإننا نغدو ونروح آمنين مطمئنين لم نرَ منهم إلا الخير والمروءة ، فهم أهل حضارة وتمدُّن ، وصدق من قال : " ما عرف التاريخ فاتحاً أرحم منهم ".
والحمد لله رب العالمين
لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire